فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {إن إبراهيم كان أمة}.
حكى ابن الجوزي عن ابن الأنباري أنه قال: هذا مثل قول العرب: فلان رحمة وفلان علامة ونسابة يقصدون بهذا التأنيث قصد التناهي في المعنى الذي يصفونه به.
والعرب توقع الأسماء المبهمة على الجماعة وعلى الواحد كقوله تبارك وتعالى: {فنادته الملائكة} وإنما ناداه جبريل وحده، وإنما سمي إبراهيم صلى الله عليه وسلم أمة لأنه اجتمع فيه من صفات الكمال وصفات الخير الأخلاق الحميدة ما اجتمع في أمة.
ومنه قول الشاعر:
ليس على الله بمستنكر ** أن يجمع العالم في واحد

ثم للمفسرين في معنى اللفظة أقوال أحدها: قول ابن مسعود: الأمة معلم الخير يعني أنه كان معلمًا للخير يأتّم به أهل الدنيا.
والثاني قال مجاهد: إنه كان مؤمنًا وحده والناس كلهم كفار فلهذا المعنى كان أمة واحدة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل «يبعثه الله أمة واحدة» وإنما قال فيه المقالة لأنه كان فارق الجاهلية وما كانوا عليه من عبادة الأصنام.
والثالث قال قتادة: ليس من أهل دين إلا وهم يتلونه ويرضونه، وقيل: الأمة فعلة بمعنى مفعولة، وهو الذي يؤتم به وكان إبراهيم عليه السلام إمامًا يقتدى به دليله قوله سبحانه وتعالى: {إني جاعلك للناس إمامًا} وقيل إنه عليه السلام هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ومن تبعه ممتازين عمن سواهم بالتوحيد لله والدين الحق وهو من باب إطلاق المسبب على السبب، وقيل: إنما سمي إبراهيم عليه السلام أمة لأنه قام مقام أمة في عبادة الله {قانتًا لله} يعني مطيعًا لله وقيل هو القائم بأوامر الله {حنيفًا} مسلمًا يعني مقيمًا على دين الإسلام لا يميل عنه ولا يزول.
وهو أو من اختتن وضحّى، وأقام مناسك الحج {ولم يك من المشركين} يعني أنه عليه السلام كان من الموحدين المخلصين من صغره إلى كبره {شاكرًا لأنعمه} يعني أنه كان شاكرًا لله على أنعمه التي أنعم بها عليه {اجتباه} أي اختاره لنبوته واصفطاه لخلته {وهداه إلى صراط مستقيم} يعني هداه إلى دين الإسلام لأنه الصراط المستقيم والدين القويم {وآتيناه في الدنيا حسنة} يعني الرسالة والخلة.
وقيل: هي لسان الصدق والثناء الحسن والقبول العام في جميع الأمم فإن الله حببه إلى جميع خلقه فكل أهل الأديان يتلونه المسلمون واليهود والنصارى، ومشركو العرب وغيرهم، وقيل: هو قول المصلي في التشهد: اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.
وقيل إنه آتاه أولادًا أبرارًا على الكبر {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} يعني في أعلى مقامات الصالحين في الجنة.
وقيل: معناه وإنه في الآخرة لمن الصالحين يعني الأنبياء في الجنة فتكون من بمعنى مع ولما وصف الله إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات الشريفة العالية، أمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه سلم باتباعه فقال تعالى: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم} يعني دينه وما كان عليه من الشريعة والتوحيد.
قال أهل الأصول: كان النبي صلى الله عليه وسلم مأمورًا بشريعة إبراهيم إلا ما نسخ منها وما لم ينسخ صار شرعًا له، وقال أبو جعفر الطبري أمره باتباعه في التبري من الأوثان والتدين بدين الإسلام وهو قوله: {حنيفًا} مسلمًا {وما كان من المشركين} تقدم تفسيره.
وقوله تعالى: {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} يعني إنما فرض تعظيم السبت على الذين اختلفوا فيه وهم اليهود.
روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أمرهم موسى بتعظيم يوم الجمعة فقال: تفرغوا لله في كل سبعة أيام يومًا فاعبدوه في يوم الجمعة ولا تعملوا فيه شيئًا من صنعتكم وستة أيام لصنعتكم، فأبوا عليه وقالوا لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق، وهو يوم السبت فجعل ذلك اليوم عليهم وشدد عليهم فيه ثم جاءهم عيسى عليه السلام أيضًا بيوم الجمعة.
فقالت النصارى لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا يعنون اليهود فاتخذوا الأحد فأعطى الله الجمعة لهذه الأمة فقبلوها، فبورك لهم فيها {ق} عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا فاختلفوا فيه، وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه فهدانا الله له فهم لنا فيه تبع فغدًا لليهود، وبعد غد للنصارى» وفي رواية لمسلم: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أو من يدخل الجنة» وفي رواية أخرى له قال «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود السبت وللنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم لنا تبع يوم القيامة نحن الآخرون في الدنيا، والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق» قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم: قال العلماء في معنى الحديث: نحن الآخرون في الزمان والوجود السابقون في الفضل ودخول الجنة فتدخل هذه الأمة الجنة قبل سائر الأمم.
وقوله بيد أنهم يعني غير أنهم أو إلا أنهم.
وقوله فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له قال: القاضي عياض الظاهر أنهم فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة بغير تعيين ووكل إلى اجتهادهم لإقامة شرائعهم فيه، فاختلف أحبارهم في تعيينه ولم يهدهم الله له وفرضه على هذه الأمة مبينًا، ولم يكلهم إلى اجتهادهم ففازوا بفضيلته قال: يعني القاضي عياضًا وقد جاء أن موسى عليه السلام أمرهم بيوم الجمعة، وأعلمهم بفضله فناظروه أن السبت أفضل.
فقيل له دعهم.
قال القاضي: ولو كان منصوصًا عليه لم يصح اختلافهم فيه بل كان يقول: خالفوه فيه. قال الشيخ محيي الدين النووي: ويمكن أن يكونوا أمروا به صريحًا ونص على عينه فاختلفوا فيه هل يلزم تعيينه أم لهم إبداله فأبدلوه، وغلطوا في إبداله.
قال الإمام فخرالدين الرازي في قوله تعالى: {على الذين اختلفوا فيه} يعني على نبيهم موسى، حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت فاختلافهم في السبت كان اختلافًا على نبيهم في ذلك اليوم، أي لأجله وليس معنى قوله اختلفوا فيه أن اليهود اختلفوا، فمنهم من قال بالسبت، ومنهم من لم يقل به، لأن اليهود اتفقوا على ذلك.
وزاد الواحدي على هذا فقال: وهذا مما أشكل على كثير من المفسرين حتى قال بعضهم: معنى الاختلاف في السبت أن بعضهم قال: هو أعظم الأيام حرمة لأن الله فرغ من خلق الأشياء، وقال الآخرون بل الأحد أفضل لأن الله سبحانه وتعالى، ابتدأ فيه بخلق الأشياء، وهذا غلط لأن اليهود لم يكونوا فريقين في السبت، وإنما اختار الأحد النصارى بعدهم بزمان طويل.
فإن قلت إن اليهود إنما اختاروا السبت، لأن أهل الملل اتفقوا على أن الله خلق الخلق في ستة أيام وبدأ الخلق والتكوين في يوم الأحد، وتم الخلق يوم الجمعة وكان يوم السبت يوم فراغ فقالت اليهود نحن نوافق ربنا في ترك العمل في هذا اليوم، فاختاروا السبت لهذا المعنى وقالت النصارى: إنما بدأ بخلق الأشياء في يوم الأحد فنحن نجعل هذا اليوم عيدًا لنا، وهذان الوجهان معقولان فما وجه فضل يوم الجمعة حتى جعله أهل الإسلام عيدًا؟ قلت: يوم الجمعة أفضل الأيام لأن كمال الخلق وتمامه كان فيه وحصول التمام والكمال يوجب الفرح والسرور فجعل يوم الجمعة عيدًا بهذا الوجه وهو أولى.
ووجه آخر وهو أن الله خلق فيه أشرف خلقه، وهو آدم عليه السلام وهو أبو البشر وفيه تاب عليه فكان يوم الجمعة أشرف الأيام لهذا السبب، ولأن الله سبحانه وتعالى اختار يوم الجمعة لهذه الأمة وادخره لهم ولم يختاروا لأنفسهم شيئًا، وكان ما اختاره الله لهم أفضل مما اختاره غيرهم لأنفسهم، وقال بعض العلماء: بعث الله موسى بتعظيم يوم السبت ثم نسخ بيوم الأحد في شريعة عيسى عليه السلام ثم نسخ يوم السبت، ويوم الأحد بيوم الجمعة في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فكان أفضل الأيام يوم الجمعة كما أن محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء.
وفي معنى الآية قول آخر قال قتادة: الذي اختلفوا فيه اليهود استحله بعضهم، وحرمه بعضهم فعلى هذا القول يكون معنى قوله إنما جعل السبت أي وبال السبت ولعنته على الذين اختلفوا فيه، وهم اليهود فأحله بعضهم فاصطادوا فيه فلُعنوا ومسخوا قردة وخنازير في زمن داود عليه السلام، وقد تقدمت القصة في تفسير سورة الأعراف وبعضهم ثبت على تحريمه، فلم يصطد فيه شيئًا وهم الناهون والقول الأول أقرب إلى الصحة.
وقوله تعالى: {وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} يعني في أمر السبت فيحكم الله بينهم يوم القيامة فيجازي المحقيين بالثواب المبطلين بالعقاب. اهـ.

.قال أبو حيان:

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
لما أبطل تعالى مذاهب المشركين في هذه السورة من إثبات الشركاء لله، والطعن في نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحليل ما حرّم، وتحريم ما أحل، وكانوا مفتخرين بجدهم إبراهيم عليه السلام مقرين بحسن طريقته ووجوب الاقتداء به، ذكره في آخر السورة وأوضح منهاجه، وما كان عليه من توحيد الله تعالى ورفض الأصنام، ليكون ذلك حاملًا لهم على الاقتداء به.
وأيضًا فلما جرى ذكر اليهود بيَّن طريقة إبراهيم ليظهر الفرق بين حاله وحالهم، وحال قريش.
وقال مجاهد: سمي أمّة لانفراده بالإيمان في وقته مدّة ما.
وفي البخاري أنه قال لسارة: ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك.
والأمة لفظ مشترك بين معان منها: الجمع الكثير من الناس، ثم يشبه به الرجل الصائم، أو الملك، أو المنفرد بطريقة وحده عن الناس فسمي أمة، وقاله ابن مسعود والفراء وابن قتيبة.
وقال ابن عباس: كان عنده من الخير ما كان عنده أمة، ومن هنا أخذ الحسن بن هانئ قوله:
وليس على الله بمستنكر ** أن يجمع العالم في واحد

وعن ابن مسعود: إنه معلم الخير، وأطلق هو وعمر ذلك على معاذ فقال: كان أمة قانتًا.
وقال ابن الأنباري: هذا مثل قول العرب: فلان رحمة، وعلامة، ونسابة، يقصدون بالتأنيث التناهي في المعنى الموصوف به.
وقيل: الأمة الإمام الذي يقتدي به من أم يؤم، والمفعول قد يبنى للكثرة على فعلة وتقدم تفسير القانت، والحنيف: شاكرًا لأنعمة.
روي أنه كان لا يتغدى إلا مع ضيف، فلم يجد ذات يوم ضيفًا فأخر غداه، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر، فدعاهم إلى الطعام، فخيلوا أنَّ بهم جذامًا فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم، شكر الله على أنه عافاني وابتلاكم.
ورتيناه في الدنيا حسنة، قال قتادة: حببه الله تعالى إلى كل الخلق، فكل أهل الأديان يتولونه اليهود والنصارى والمسلمون، وخصوصًا كفار قريش، فإنّ فخرهم إنما هو به، وذلك بإجابة دعوته.
{واجعل لي لسان صدق في الآخرين} وقيل: الحسنة قول المصلي منا: كما صليت على إبراهيم.
وقال ابن عباس: الذكر الحسن.
وقال الحسن: النبوة.
وقال مجاهد: لسان صدق.
وقال قتادة: القبول، وعنه تنويه الله بذكره.
وقيل: الأولاد الأبرار على الكبر.
وقيل: المال يصرفه في الخير والبر.
{وإنه لمن الصالحين}، تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة، ولما وصف إبراهيم عليه السلام بتلك الأوصاف الشريفة أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملته، وهذا الأمر من جملة الحسنة التي آتاها الله إبراهيم في الدنيا.
قال ابن فورك: وأمر الفاضل باتباع المفضول، لما كان سابقًا إلى قول الصواب والعمل به.